كانت تصدر عن جهاز اللاسلكي الذي كان بيد المترجم مكالماتُ لأعضاء في حركة "طالبان" التي يتم اعتراضها، فأشار لدورية المشاة بالانتظار. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحاً في ذلك اليوم الصيفي، وكان المزارعون قد خرجوا إلى حقولهم من أجل الحصاد بقرية "لارزاب" الواقعة في جزء ناءٍ من إقليم "زابول" الأفغاني، الذي يعد معقل "طالبان". قدر مترجمنا محمد إن مقاتلي "طالبان" يبعدون عنا بنحو نصف ميل. فواصلنا السير وسط الحقول لنحو 20 دقيقة قبل التوقف بالقرب من تلة صغيرة، حيث أخبرني الرائد "رالف بريديس" أن المكالمات التي تم اعتراضها كشفت أن عناصر "طالبان": "كانوا يراقبوننا وينتظرون اقترابنا"؛ فقام رجالُه بإبلاغ القوات الأميركية عبر جهاز اللاسلكي وأطلعوها على موقع المقاتلين المختبئين. وبعد لحظات من ذلك، عمد الجنود الأميركيون إلى إطلاق قذائف "مورتر" حلقت فوق رؤوسنا في اتجاه تلك التلة التي لم تكن تبعد عنا سوى مئات الأمتار، وحيث يُعتقد أن مقاتلي "طالبان" كانوا مختبئين. غير أنه لم يتسنَّ لنا التأكد مما إن كان القذائف قد أصابت أهدافها. هي إذن دوريةٌ أخرى، ومناوشة أخرى في حرب أفغانستان– الصراع الذي يزداد فيه القتال قوة وشراسة بمرور الأشهر، حيث بات الجيش الأميركي وقوات "الناتو" يحاربان "طالبان" اليوم على نطاق لم يعرف له نظير منذ 2001، عندما اندلعت الحرب، وأصبحا يقاتلانها بشكل متزايد في المناطق النائية مثل "لارزاب" حيث كانت "طالبان" تنشط بحرية. عندما سافرت إلى أفغانستان عامي 2002 و2003، كان تهديد "طالبان" قد تقلَّص كثيراً. غير أن الحركة أعادت رص صفوفها وتسليح نفسها اليوم. وهكذا عادت "طالبان" إلى الواجهة من جديد، ومعها عادت حربُ أفغانستان المنسية، بعد أن استفادت الحركة من تقصير الحكومة الباكستانية، وتدفق أموال المخدرات عليها، وشعور السكان بالإحباط بسبب تدمير البنى التحتية وتباطؤ جهود إعادة الإعمار. وحسب العقيد "توم كولينز"، المتحدث باسم الجيش الأميركي، فقد قتلت قوات التحالف خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط ما يزيد على ألف من مقاتلي "طالبان"، في حين قتلت ميليشيا الحركة العشرات من جنود التحالف والمئات من المدنيين الأفغان، مشيعة بذلك أجواء الخوف عبر ربوع البلاد. كما ارتفع عدد الهجمات الانتحارية من رقم واحد قبل نحو عامين إلى أكثر من 40 هجوماً هذا العام. ومعظم الضحايا من المدنيين، ومثال ذلك المارة الاثني عشر الذين قُتلوا هنا يوم الجمعة عندما استهدفت سيارة ملغومة قافلة عسكرية تابعة للجيش الأميركي غير بعيد عن مقر السفارة الأميركية، وهو ما تسبب علاوة على ذلك في مقتل جنديين أميركيين وجرح ثالث. عندما زرت إقليم "زابول" شهر يوليو الماضي، كان العقيد "فرانك ستوريك" مكلفاً بعمليات الجيش الأميركي هناك. وقد شدد "ستوريك"، الذي بدا أنه يعكس رأي جميع الضباط الأميركيين الذين استجوبتهم، على أن تهديد "طالبان" إنما يتطلب حلاً سياسياً، وليس عسكرياً؛ وأن توسيع الحضور الأميركي وجهود إعادة الإعمار لتشمل المناطق النائية من شأنه المساهمة في تحقيق النصر في هذا الصراع على المدى البعيد، قائلاً: "بإمكانك الفوز في أي معركة تريد، غير أن المعركة الحقيقية هي في هذه القرى"، مضيفاً "هنا يمكنك تغيير أفكار الناس، أو على الأقل خلق الشك في أن طالبان لا تحمل رسالة صحيحة". ويمثل برنامجُ عفو دشنته حكومة الرئيس قرضاي عام 2005 مقاربة تبعث على الأمل في احتواء تهديد "طالبان". ففي "كالات"، عاصمة إقليم "زابول"، شهدتُ شخصياً الإفراج عن "الملا عبدالعالي أقوندزاده"، الذي كان متهماً بإيواء أعضاء من نظام "طالبان". ففي إطار اتفاق رعته حكومة قرضاي والجيش الأميركي، تم تسليم "أقوندزاده" لمجموعة تضم نحو 30 زعيماً دينياً وقبلياً تعهدوا علناً بأن يدعم "الملا" المفرج عنه الحكومة. وفي بلد يقوم على العرف واحترام العهود مثل أفغانستان، يبدو أن البرنامج بدأ في تحقيق ما هو مؤمل منه، حيث لم يعد إلى محاربة الحكومة وقوات التحالف من مقاتلي "طالبان" الألف الذين استفادوا من العفو سوى عدد قليل جداً. والحال أنه حتى وإن كان برنامج العفو هذا يبدي مؤشرات تبعث على التفاؤل، فإن تجارة المخدرات التي تشهد طفرة ملحوظة تعمل على توسيع صفوف "طالبان". وبالتالي، فليس من قبيل الصدف أن يكون إنتاج الأفيون والهرويين، الذي يمثل نحو نصف الاقتصاد الأفغاني، قد تقوَّى في الوقت نفسه الذي عادت فيه "طالبان" إلى واجهة الأحداث. كما قال لي مسؤول عسكري أميركي إن المساهمات والتبرعات الفردية القادمة من الشرق الأوسط تساهم هي الأخرى في تمويل "طالبان". وهذان الرافدان من روافد عائدات "طالبان" –أموال المخدرات والمساهمات- هما اللذان يسمحان لـ"طالبان" بدفع 100 دولار شهرياً لمقاتليها، مقارنة مع 70 دولاراً التي يتقاضاها شرطي أفغاني شهرياً. غير أن مفتاح عودة "طالبان" إلى دائرة الضوء يمكن اختزاله في كلمة واحدة هي باكستان. فقد أظهرت الحكومة الباكستانية أنها غير راغبة أو غير قادرة (أو ربما الاثنين معاً) على كبح جماح مليشيا الحركة، وذلك رغم أن مقر "طالبان" وحلفائها يوجد في باكستان. فوفق مسؤول عسكري أميركي، لم يتم في باكستان إيقاف أي مسؤول كبير من "طالبان" أو قتله منذ 2001، والأمر نفسه ينسحب على زعماء المليشيات التي يرأسها "قلب الدين حكمتيار" و"جلال الدين حقاني"، اللذان يقاتلان القوات الأميركية إلى جانب "طالبان". علاوة على ذلك، يثير اتفاق السلام الذي تم التوصل إليه هذا الشهر بين الحكومة الباكستانية والنشطاء الموالين لـ"طالبان" بمحاذاة مع الحدود الأفغانية المزيد من المخاوف من أن يزداد نشاط هذه المجموعات أكثر على الحدود وعبرها؛ حيث قال لي مسؤول عسكري أميركي في أفغانستان إنه "قلق للغاية" من الاتفاق، الذي تقوم بموجبه باكستان بسحب وحدات الجيش من المنطقة وتسليم نقاط التفتيش إلى القبائل المحلية التي ليست سوى "طالبان" في الواقع. الواقع أنه في غياب استثمارات أميركية أكبر في مجالات الطرق والطاقة والماء، فالأكيد أن "طالبان" ستزدهر وتستمر في استقطاب أنصار لها. وعليه، فما لم يتخذ صناع السياسة الأميركيون التدابير اللازمة اليوم، فإنهم قد يجدون أنفسهم بعد بضع سنوات وهم ينظرون إلى الخلف، متسائلين لماذا أضاعوا أفغانستان رغم الأمل الذي أظهرته البلاد بعد سقوط نظام "طالبان". بيتر بيرجن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل برنامج شوارتز بـ"مؤسسة نيو أميركا"، ومؤلف كتاب "أسامة بن لادن الذي أعرفه" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"